إعداد : محمد الدريج
بعد مرور أزيد من أربعين سنة على إنشاء كلية علوم التربية بالرباط، حيث ساهمنا بفعالية في وضع وترسيخ تصنيف علوم التربية والذي ما زال منتشرا في منظومة التربية والتعليم ببلادنا
وبالعديد من البلدان الأخرى وسائدا في مؤسسات التكوين بها على وجه الخصوص؛ نعتقد أنه حان الوقت لإعادة النظر في هذا التصنيف بما يواكب ما يشهده العالم من تغيرات سريعة وعميقة في مختلف الميادين ونتيجة للعجز الكبير الذي أصبحت عليه علوم التربية في وضعها الحالي، وعدم كفايتها للإجابة عن الكثير من التساؤلات النظرية والتطبيقية ومواجهة الاشكالات التي تعطل أنظمة التربية والتكوين، وتجعلها غير قادرة على مواكبة التغيرات. وخاصة بعدما لاحظنا الكثير من الخلط النظري والتشويش الباراديكمي، والذي يضعف من فعالية هذه العلوم ودورها المأمول في العديد من مؤسسات التربية والتكوين، والتي قد تتحول إلى ميدان للكثير من الأفكار والممارسات والأطاريح المحسوبة على علوم التربية، وهي ليست كذلك وقد تنتمي الى علوم مساعدة ترتبط أصلا بتخصصات أخرى مثل التاريخ أو الفلسفة أو علم النفس أو علم الاجتماع أو الإحصاء ... ولا علاقة لها بها بشكل مباشر وبمعناها الدقيق. لذلك نجدد الدعوة إلى
إعادة النظر في تعريف علوم التربية وتصنيفها وبيان أهميتها، دعوة نقدمها هنا
بنوع من التركيز، مستلهمين نظريات حديثة وتجربة متواضعة في الميدان، وإن كنا
سنعمل في دراسات لاحقة، على عرضها بتفصيل وتوضيح أسسها ومبرراتها ومراميها، بما
قد يحقق انطلاقة جديدة لهذه العلوم ويرفع أسباب اللبس والتشويش العلمي والعتمة
الابستملوجية والتي أصبحت تعيق تطورها في بلادنا وتقف حجر عثرة أمام البحث التربوي الجاد
وإنتاج النماذج والنظريات وتوظيفها السليم في إصلاح منظومة التربية والتعليم.
نقدم إذن، مقترح حل
لبعض المشكلات الإبستملوجية للبحث التربوي وخاصة لمشكلات الباحثين مع تموضع
أبحاثهم و تموقعها ضمن التصنيف التقليدي السائد لعلوم التربية وعدم وضوح لديهم،
الحدود بين التخصصات والمجالات التي يتحركون فيها وضبابية الباراديكم الذي
يبحثون مبدئيا في إطاره .
نقول، نقدم مشروع حل
يتمثل في الدعوة لإعادة النظر في تصنيف علوم التربية ورفع اللبس ما أمكن، حول
تعريفها ورسم حدودها ووظائفها، بحيث تصبح البيداغوجيا بالمعنى الضيق والدقيق،
علما يهتم بالجانب الوجداني والقيمي من شخصية الانسان، في حين تتحول الديداكتيك
وبدلا من الاستمرار في اعتبارها مجرد علم تطبيقي للبيداغوجا، إلى علم مستقل وأساسي
من علوم التربية يهتم باكتساب المعارف وتكوين الجانب العقلي، فضلا عن علمين
آخرين نقترحهما في هذا التصنيف، يهتمان بجوانب أخرى من شخصية الانسان وسلوكه.
فيكون التصنيف الرباعي
لعلوم التربية الحقة والأساسية والذي يجعلنا نعمل في إطاره بسلاسة وفعالية، هو
الذي نصوغه هنا في عرض أولي ومؤقت نطرحه للنقاش والتطوير، في النقاط التالية :
-1-البيداغوجيا أو علم التربية
الوجدانية - القيمية ويعتنى بالجانب الوجداني- القيمي من شخصية الانسان. Domaine d'affection et des valeurs
-2-الديداكتيك أو علم التدريس ويعتنى
بالتربية الفكرية-المعرفية وتكوين الجانب العقلي. Domaine des connaissances et de la pensée
-3-التربية البدنية ويعتنى هذا العلم
بتكوين الجانب الجسمي الرياضي والحس - حركي من الشخصية. Domaine physique et moteur
-4-علم الكفايات ويعتنى بتربية الكفايات
النوعية والممتدة، الصلبة والناعمة وتكوين مهارات الحياة. "Domaine des compétence
et des "life skills
وهذا العلم، نجتهد في
إضافته كعلم مستقل وأساسي من علوم التربية وهو علم تركيبي يهتم بالتربية والتكوين
في المجالات الثلاثة السالفة ( العقل والوجدان والبدن) من شخصية الانسان وسلوكه،
لكن مجتمعة ومندمجة ومتفاعلة في أشكال معقدة ومتطورة من سمات و حالات نفسية.
والرابط
بين هذه العلوم الأربعة المستقلة والمتكاملة في نفس الآن، هو "تربية
الانسان وتكوين شخصيته السوية في جميع جوانبها " والذي نقترحه كتعريف
لعلوم التربية .
في حين تظل العلوم الأخرى، مثل تاريخ التربية وفلسفة التربية وعلم النفس التربوي وعلم الاجتماع التربوي واللسانيات التربوية والتخطيط التربوي والاحصاء المطبق في التربية ... وغيرها كثير، علوما مهمة وضرورية خاصة في إطار تعقد ظواهر التربية والتعليم والتكوين وتشابك متغيراتها في وقتنا الراهن، الامر الذي يقتضي بالضرورة تكامل المعرفة وتداخل التخصصات interdisciplinarité والاستنجاد بعلوم أخرى. لكنها تبقى في نهاية التحليل علوما مساعدة تنتمي أصلا إلى تخصصات أخرى تتفرع عنها وتستمد منها مفاهيمها وفرضياتها ومناهجها، مثل التاريخ والفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والإحصاء ... ولا تدخل ضمن علوم التربية بالمعنى الدقيق، عكس الاعتقاد الشائع والمتجاوز والذي يصنفها ضمنها.
وقد تتفرع علوم التربية انطلاقا
من إعادة تعريفها وتصنيفها، كما تتفرع في العادة بقية العلوم أمام ما يستجد من
ظواهر ومشكلات تحتاج إلى تضافر التخصصات، كالفيزياء والتي تفرعت إلى فيزياء
كيماوية وفيزياء حيوية وفيزياء فلكية وغيرها، لكنها تبقى فيزياء في نهاية التحليل. أو ما حدث مع الجغرافيا
من تفرعات حيث انشطرت لضرورات علمية و عملية، إلى جغرافيات (الجغرافيا الطبيعية وج
البيئية وج البشرية وج السياسية وج الاقتصادية وجغرافيا المناخ ...) وفي هذه
الحالة يصح الحديث عن علوم الجغرافيا بالجمع. في حين نحن بدأنا في التربية
بالحديث انطلاقا من الفروع، فقلنا علوم
التربية متأثرين بالتقليد الفرنكفوني، في الوقت الذي لم يكن واضحا لدينا ما هو
الأصل هل هو علم التربية أم البيداغوجيا أم التربية العامة... أم ماذا ؟ وبدأنا
نبحث عن هذه العلوم وانتهينا إلى " اقتباسها " واستعارتها من تخصصات
أخرى. وفي اعتقادنا هذا سبب كاف للدعوة إلى التفكير الجدي في ضرورة إعادة ترتيب
وتنظيم بيتنا من الداخل.
وقد نجد فيما حدث للديداكتيك نموذجا يحتذى في علوم التربية الأخرى، حيث تفرعت إلى الديداكتيك العامة والديداكتيك الخاصة والتي انقسمت بدورها إلى ديداكتيك العلوم وديداكتيك اللغات وديداكتيك الرياضيات ...
وتلخص الخطاطة رفقته
التصنيف المؤقت، الذي نقترحه للمناقشة والتعديل والتطوير :
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق