مرجعك الدائم للنجاح والتفوق والتنمية الذاتية، والتحضير للمباريات والكفاءة التربوية والتأهيل المهني والشؤون الإدارية

بحث هذه المدونة الإلكترونية


قصة قصيرة : موعدٌ أخلفَه

تربويات24 >>

    وجعلت أفكِّرُ في أمرِك.. في نفسي، ما الذي رمى بك في طريق ذاك العابر فأدمنتِ السعي إليه، إلى حيث ألف أن يجلس منزويا يراقب شيئا ما، في الجانب الفارغ من الشارع، يحدِّق في اللاشيء، ويحرك نظارته بين الفينة والأخرى، كأنه يتأمل لوحة تتكشف أسرارها رويدا رويدا؟
    ما الذي يغريك فيه وهو البسيط في كل شيء، بل اللاملفت في كل التفاصيل؟. لفظته أعين الناس واستغربته أنفسهم وهان إلا عليك شأنه، فعظُمَت في حناياك صورته وكبر حتى صار لا يسعه يومك، فتجاوزه ليشغل ليلك وأحلامك.
     ما الذي يستدعيه إليكِ ويأخذ بِلُبِّك، فترين صمته وقاراً، وكلامه حكماً، ونظراته ذات مغزىً عصيٍ إلاَّ على خيالكِ إذ ترخين لجامه ليوصلك إلى ما أراد؟
أضنتني أسئلة كهذه لا تحبل بجواب، فأطبقت جفنيّ لمدة لا أحسبها قصيرة، ورأيتني وإياه نتبادل حديثا أقرب لمناجاة، وألطف من همس:
     ـ فيم شرودك سيدي؟
    التفت إليَ محدقاً في تفاصيلي بدهشة، كأن السؤال ما كان له أن يُطرَح، وإن طُرِحَ فليس منِّي. هشَّمَت دهشته نظرتي المتفحصة المتبحرة في سواد عينيه، فأطرقت بها أنقِّبُ عن بديل وكدت أعود أدراجي، لأن أرضي ما استطاعت أن تحملني أكثر. ظننتني خيبت أمله فيَّ، في ذكائي الذي امتدحه ذات يوم بجملة مقتضبة، وظللت أنا أرتشف حروفها إذ ألقتها شفتاه حينئذ كلما آويت لوسادتي، واستحضرته يؤنسني في السمر.
لكنَّه رفع رأسي إليه بأنامل لم أحسَّها من لحم ودم، بل سرى في خلاياي ملمسها على وجه ما سبق واستشعرته، وهمست لي عيناه الدافئتين ألاَّ داعي للخجل، ونبست شفتاه بعد برهة مديدة:
     ـ فيم يضيرك شرودي صغيرتي، لست أطرق بابا غير بابك حين أفرغ لذاتي من شغل ذاتي، ولن يطوف بمداري طيف سواك، فلا يقربنَّك قلق. تعلمين أني غالبا ما أخالك تدركين ما يعتمل فيَّ، وأغفل عن أنك صغيرتي لا طاقة لك بضياعي، لا طاقة لك بفنجاني المكسور، وطريقي المسدود وقدميَ الحافيتين المتورمتين، لا طاقة لك بعوسج أنظمه بذراعين أعزلين، سياجا حتى أحصن به ما تبقىَّ من صرح ممرد من أساطير.
وسكت ومازال بين شفتيه كلِم، وسكتُّ إشفاقآ عليه من همٍّ يسكنه.
    كيف يكون لي مكان في قلب هذا حامله؟ في خاطر كل هذا الألم شاغله؟ ثمَّ لماذا كل هذا؟ لماذا يحمل نفسه عناء ماض ضاع، و حاضر يغتصب، و غد يجهض خلسة وبسبق إصرار وترصد؟ لماذا يغتال حقه في أن يتنفس هواء كما يتنفسه الآخرون، وإن وسط الحمم؟..
    أفهم أنه مختلف، وإني لأعشق اختلافه، طعمه بنكهة المرارة. هو ما ما شدني إليه، هو هذا ما يجعلني لا أقاوم مشاعري حياله.
    وكأنه نسيني.. وللتو تذكر وجودي، فعاودتني نظرته الدافئة تلك، وبسمته الخفيفة التي لا حول له على أكثر منها.
     ـ ترين ذاك الطائر صغيرتي؟
    عدلت عنه لوجهة أصبعه، هناك دائما في الجانب الفارغ من الشارع، ثمة طائر يرفرف بجناحيه، ويعلو قليلا ثم ينزل للثرى، يعلو ثم ينزل، وظل كذلك عن الوضعين لا يحيد، وعن مقربة منه سرب في اتجاه الغرب يطير.عدت لألقي عليه بعيني المتسائلتين، وأجاب دون أن يغادر طائره ببصره:
     ـ ليس جريحا صغيرتي، إنه معافىً لا يشكو من شيء، وهم سربه الذين ألفهم منذ أدرك معنى السرب، لكنه تشمم ريحاً سموما في أقصى الغرب وأبصر وإن بغير عيني زرقاء اليمامة قناصين مهرة وكلاب سعرة تتربص بالسرب، وبلَّغ إخوته عساهم يميلون شرقا آمنا، لكنهم أبوا إلا ذاك الصوب، وإنه لَيَضِنُّ بهم على هلاك يرفل في ثوب نعيم، فيمد شراعيه ليعيد كرَّة النصح والتحذير، ثم يتذكر هوانه عليهم واستصغارهم شأوه وإعراضهم عنه غير ما مرة فينزل به جسمه رغما عنه. إنه صغيرتي المستجير من الرمضاء بالنار.
     وإني أراني فيه، أراني هو، أرى ما لا يراه قومي، أو أوقن فيما مازال يراودهم فيه شك، وكللت نصحا وتحذيرا من سيرهم في اتجاه واحد من هذا الشارع، وتزاحمهم وتناحرهم على من يسبق من ومن يوقع بمن ومن يفتك بمن و...
وأرى جانبي الخالي منبوذا، وأظلُّ أتصورهم فيه فرحين مرحين بسلام.
إني صغيرتي في شغل عنك لأني في شغل عن ذاتي، ولأني أربأ بحالي أن يكون هذا حاله، إني أموت كمدا لضعف حيلتي.
     لم تذرف عيناه قطراً وإن كانتا على وشك، وكفكفت دمعي لأعينه على التجلد فما مثله من يدمع أمام امرأة، وأعلنت ويدي تأخذ بيده الجامدة:
     ـ إن كان لابد أن نموت فلن نموت كمدا، سنموت ونحن نوقف زحفهم لحتفهم، سنصرخ ملء الشارع مادام فينا رمق، سنجند صبيتهم فهم أطوع لنصحنا منهم، ولابد لقلوب طاهرة كقلوبهم وفطرة سليمة كفطرتهم أن تستجيب لنداء خير مَّنا آت يصدع.
وإن طال البذل وأعيانا الأمل وكان لا بد مُوقِفُهم أمرٌ جلل، فليكن موتَنا تحت أقدامهم الزاحفة.أحسب أنَّ دمنا سيزيل الغشاوة ،وسيوقظهم من غفلتهم سيدي، لابدَّ موقظهم ذات يوم.
     نظر إليَّ لحظتها كما لو أنَّه ينظر لطوق نجاة أسعفه وسط اللجج، وتبسَّم كما لم أعهده فيه، وفتح ثغره ليقول كلمة هي الكلمة، هي الكلمة التي أنتظرها...
ولم يقلها، لم يقلها لأنه تبخر كما يتبخر كل مرة على صوت ديك الجيرة يبشر بالفجر.
وانتبهت من نومي مستبشرة بكلمته التي لاحت فهي وإن لم تطرق باب مسمعيّ لكنها دوَّت في خافقي المسكين.
    وقررت أن أنصفك نفسي، سأنصفك.
    مع أول شعاع شمس ينجلي سأسعى إليه وسأفضي له بسرِّي، سأقاسمه همَّه، الآن وقد تكشَّف لي، سأحمل عنه وسأرجوه أن يحملني كما يحمل قومه.
    وخرجتُ تلتف ساقي بساقي حتى قبل أن يحين موعد يومي مع شمسه، واتخذت مجلسي كرسيَّ الحديقة المهجورة في الجانب الفارغ من الشارع، وجلست أنتظره .
وانتظرت وانتظرت، ثم انتظرت ...
    مرَّ اليوم وفارقته شمسه، وزال عن الأفق تقوُّس حمرتِه، وتورمت قدميّ ... ولم يأتِ، لم يأتِ.

                                                                   بقلم: بشرى أُكًورو
                                                                                                                     أديبة من المغرب

ليست هناك تعليقات: