تربويات24 >> |
بدأ فصل الشّتاء، سيكون شتاءً طويلاً وقاسيًا، وربمّا يتخلّله التّسونامي.
لقد صرنا هنا مع الوقت الطّويل و المآسي المتتالية والحروب الطّويلة الخاسرة، صرنا كتماثيل الجنود المجهولين البرونزيّة. لن يخيفنا التّسونامي، سنستغلّ أمواجه العالية للرَّكْمَجَة.
أبناء حيِّي كلّهم سبّاحون، تعلّمنا السّباحة قبل أن نتعلّم المشي، اصطدت أسماكًا صغيرة بيدي وعمري ستّ سنوات، بعد أن ينحسر المحيط العملاق تبقى الأسماك الصّغيرة جدًّا عالقة في البرك الصّخريّة الّتي تمتدّ كفخاخ على طول السّاحل، أغطس في البركة الضّحلة وفي يدي كيس بلاستيكيّ أستعمله شِباكًا، أدفع الماء بقدميّ الضّفدعة، حين أصل إلى حافة البركة الأخرى يكون الكيس البلاستيكيّ قد جرف كلّ الأسماك، أرفعه بغثة ليتأرجح في الهواء تاركًا الماء المالح يسيل من ثقوبه، الحصيلة: مقلاة من السّمك الصّغير الخالي من أيّة أشواك.
أسكن قرب المحيط الأطلسيّ العظيم، وعلى يميني هناك نهر أبي رقراق الأفعوانيّ، كيف لا أحبّ الأسماك، وكيف لا أسبح برشاقة كسمكة، وكيف أخاف من التّسونامي؟
أحبّ كثيرًا مشهد مطر غزير يتهاطل بنعومة في العاشرة صباحًا فوق البحر، قبل أن يتحوّل فجأة إلى عاصفة رهيبة، وأحبّ حكايا البحّارة المتوحّدين، أحفظها عن ظهر قلب وأعيد حكيها لأصدقائي بعد إضافة بعض التّفاصيل الضّروريّة من خيالي الواسع كشباك السّفن.
لكنّي لا أحبّ فصل الشّتاء، كنت أحبّه فيما مضى، لكنّه لم يعد شاعريًّا كما كان، لقد تغيّر العالم، والشّتاء القارس الطّويل لم يعد يعني لي أيّ شيء سوى الكآبة المستمرّة الّتي لا تعقبها أيّ قهقهة، بل كلّ ما يعقبها هو الانهيار الكامل.
بالأمس رأيت مجنون الحيّ "نُوعَا" يتجوّل في الشّارع العامّ بفردتي حذاء مختلفتين، وشعر أشقر طويل، وحقيبة غامضة فوق ظهره البوذيّ، كان المطر يتهاطل، وكان "نوعا" يرتدي فقط قميصًا رياضيًّا خفيفًا، ولا يرتعش. لم يكن يحسّ بالماء يبللّ شعره ووجهه وثيابه وأعماقه، كان يقاوم البرد بالبرد، ويتقدّم في الزّحام حاملاً على ظهره حقيبة مليئة بمستلزمات الجنون، مبتسمًا بصلابة.
طيلة ثلاثين سنة وهو مجنون، ورغم ذلك لازال حيًّا، يبدو من الخلف بمشيته العوجاء كملاكم أسقط للتوّ غريمه بالضّربة القاضية.
كنت أسجنُ نفسي في غرفتي لشهور، أتمشّى داخل زنزانتي عاريًا من أقصاها إلى أقصاها كذئب في قفص الصيّادين، أتدرّب بالقفز على أصابع قدميّ ولَكْمِ الحائط دون قفّازات، استعدادًا لأيّ طارئ.
أجلسُ اللّوتس فوق سريري وأتأمّل طيلة اللّيل.
في الصّباح الباكر أقرأ نيتشه، وفي المساء الرّومنسيّ أقرأ نيرودا، في حمية صارمة كغذاء السّجن، لا أغيّرها أبدًا.
كان لابدّ لي من امتلاك طاقة روحيّة للمقاومة والبقاء مدّة أطول كشوكة سمكة قرش على الشّاطئ المقفر، في حلق الرّمال، وكان مصدر تلك الطّاقة الجبّارة الوحيد هو: الكسل.
أستطيع الآن أن أصعد عاريًا إلى السّطح، وأجلسَ اللّوتس تحت المطر البارد الغزير، ساعات وساعات، دون أن أرتعش، شعري الطّويل مبلول كأنّي أغطس في برك نفسي وأملأ شِباك حياتي بأسماك صغيرة حيّة، وعلى وجهي ابتسامة مقاومة صلبة كابتسامة"نوعا".
أستطيع بكلّ سهولة مقاومة البرد بالبرد، والرّعد بالصّمم، والبرق بالعمى، والقسوة بقسوة أقسى منها.
ما لا أستطيع مقاومته نهائيًّا، هو منظر سماء غائمة حزينة مستعدّة للبكاء بكاءً حارًّا لأتفه الأسباب، كأمّهاتنا.
لقد صرنا هنا مع الوقت الطّويل و المآسي المتتالية والحروب الطّويلة الخاسرة، صرنا كتماثيل الجنود المجهولين البرونزيّة. لن يخيفنا التّسونامي، سنستغلّ أمواجه العالية للرَّكْمَجَة.
أبناء حيِّي كلّهم سبّاحون، تعلّمنا السّباحة قبل أن نتعلّم المشي، اصطدت أسماكًا صغيرة بيدي وعمري ستّ سنوات، بعد أن ينحسر المحيط العملاق تبقى الأسماك الصّغيرة جدًّا عالقة في البرك الصّخريّة الّتي تمتدّ كفخاخ على طول السّاحل، أغطس في البركة الضّحلة وفي يدي كيس بلاستيكيّ أستعمله شِباكًا، أدفع الماء بقدميّ الضّفدعة، حين أصل إلى حافة البركة الأخرى يكون الكيس البلاستيكيّ قد جرف كلّ الأسماك، أرفعه بغثة ليتأرجح في الهواء تاركًا الماء المالح يسيل من ثقوبه، الحصيلة: مقلاة من السّمك الصّغير الخالي من أيّة أشواك.
أسكن قرب المحيط الأطلسيّ العظيم، وعلى يميني هناك نهر أبي رقراق الأفعوانيّ، كيف لا أحبّ الأسماك، وكيف لا أسبح برشاقة كسمكة، وكيف أخاف من التّسونامي؟
أحبّ كثيرًا مشهد مطر غزير يتهاطل بنعومة في العاشرة صباحًا فوق البحر، قبل أن يتحوّل فجأة إلى عاصفة رهيبة، وأحبّ حكايا البحّارة المتوحّدين، أحفظها عن ظهر قلب وأعيد حكيها لأصدقائي بعد إضافة بعض التّفاصيل الضّروريّة من خيالي الواسع كشباك السّفن.
لكنّي لا أحبّ فصل الشّتاء، كنت أحبّه فيما مضى، لكنّه لم يعد شاعريًّا كما كان، لقد تغيّر العالم، والشّتاء القارس الطّويل لم يعد يعني لي أيّ شيء سوى الكآبة المستمرّة الّتي لا تعقبها أيّ قهقهة، بل كلّ ما يعقبها هو الانهيار الكامل.
بالأمس رأيت مجنون الحيّ "نُوعَا" يتجوّل في الشّارع العامّ بفردتي حذاء مختلفتين، وشعر أشقر طويل، وحقيبة غامضة فوق ظهره البوذيّ، كان المطر يتهاطل، وكان "نوعا" يرتدي فقط قميصًا رياضيًّا خفيفًا، ولا يرتعش. لم يكن يحسّ بالماء يبللّ شعره ووجهه وثيابه وأعماقه، كان يقاوم البرد بالبرد، ويتقدّم في الزّحام حاملاً على ظهره حقيبة مليئة بمستلزمات الجنون، مبتسمًا بصلابة.
طيلة ثلاثين سنة وهو مجنون، ورغم ذلك لازال حيًّا، يبدو من الخلف بمشيته العوجاء كملاكم أسقط للتوّ غريمه بالضّربة القاضية.
كنت أسجنُ نفسي في غرفتي لشهور، أتمشّى داخل زنزانتي عاريًا من أقصاها إلى أقصاها كذئب في قفص الصيّادين، أتدرّب بالقفز على أصابع قدميّ ولَكْمِ الحائط دون قفّازات، استعدادًا لأيّ طارئ.
أجلسُ اللّوتس فوق سريري وأتأمّل طيلة اللّيل.
في الصّباح الباكر أقرأ نيتشه، وفي المساء الرّومنسيّ أقرأ نيرودا، في حمية صارمة كغذاء السّجن، لا أغيّرها أبدًا.
كان لابدّ لي من امتلاك طاقة روحيّة للمقاومة والبقاء مدّة أطول كشوكة سمكة قرش على الشّاطئ المقفر، في حلق الرّمال، وكان مصدر تلك الطّاقة الجبّارة الوحيد هو: الكسل.
أستطيع الآن أن أصعد عاريًا إلى السّطح، وأجلسَ اللّوتس تحت المطر البارد الغزير، ساعات وساعات، دون أن أرتعش، شعري الطّويل مبلول كأنّي أغطس في برك نفسي وأملأ شِباك حياتي بأسماك صغيرة حيّة، وعلى وجهي ابتسامة مقاومة صلبة كابتسامة"نوعا".
أستطيع بكلّ سهولة مقاومة البرد بالبرد، والرّعد بالصّمم، والبرق بالعمى، والقسوة بقسوة أقسى منها.
ما لا أستطيع مقاومته نهائيًّا، هو منظر سماء غائمة حزينة مستعدّة للبكاء بكاءً حارًّا لأتفه الأسباب، كأمّهاتنا.
بقلم: محمد بنميلود
كاتب من المغرب
كاتب من المغرب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق