تربويات24 >> |
إنه يوم الجمعة، الإمام سيعتلي منبرًا ليخطب وفي يده عصا. أحيانا يغفو أحد المصلين رغمًا عنه، مغمضًا عينيه وفاتحًا فمه، يضرب الإمام أرضية المنبر بعصاه لِيَتَيَقَّظَ الجميع ويتنبَّهوا، فهذه ليست فرصة للنّوم والاستجمام، بل لجمع الحسنات وادِّخارها للأيام العصيبة.
أحيانًا تدخل ذبابة عبر نافذة الأرابيسك لتحط فوق أنفِ مُصلٍّ أو أصبع قدمه الرطبة بماء الوضوء، أو فوق المحراب ملصقة خرطومها وجبهتها على خشبه كأنها تسجد قليلاً.
رائحة الكُسْكُس تخترق جدران البيوت وتخرج من النوافذ والشقوق إلى الشوارع والساحات المتقاعسة، تنتشر سريعًا في كل مكان كوباء ينتشر باللذة. كسكس بلحم الغنم، بسبع خضار، بالحمّص، بالفول، بالأعشاب، بورقة سيدنا موسى، بالدجاج البلدي، بالسّمن الحارّْ، بالتّفَاية، باللبن الطازج، بالذُّرَة الجيدة، بالزبيب، كسكس خالٍ من الكولسترول بلحم الماعز وزيت الزيتون، كسكس صحراوي، بالسمك المجفف، بالقديد المالح، قصعة تنسيك في قصعة، كسكس في كل مكان وزمان، بلحم العجول الرضيعة، بلحم النعجة، وبلا لحم، بالْكْنُورْ فقط بكل النسمات.
أيها الناس: يجب أن تكونوا صالحين، فالدنيا فائتة. هذا ما يقوله الإمام. الكل يشعر بصلاحه وبِرِضًا زائدٍ عن النفس، أحيانا تكتحل العيون بالدمع بسبب ذلك، خصوصًا حين يبدأ الإمام بالدعاء للمؤمنين ولأولي الأمر، والدعاء على المنافقين.
يتصافح المصلون فيما بينهم ويتعانقون بمحبة حقيقية وطهرانية دون تعارف، يتفرقون عائدين إلى بيوتهم كنمل لا يخطئُ أبدًا ليدخل إلى غار آخر. الكسكس لذيذ للغاية، أملس في الفم، وسهل في البلع، خصوصًا حين تضع الملعقة جانبًا وتصنع لقمتك بيدك، كرة صغيرة من الكسكس، يقولون أن الفقهاء هم أكثر من يتقنون ذلك، يصنعون لقمة مثالية، أحيانًا بحجم كرة الغولف، وأحيانًا بحجم كرة السلة، لا يتركون اللحم حتى يبرد. من تكون يده رقيقة فهو لا يصلح لذلك، وقبل أن يرتدَّ إليه طرفه سيجد القصعة فارغة تُصَفِّرْ.
بعد الشبع يُحْمَدُ الله بصوت مرتفع، هناك من يقول الحمد، ثم يتجشأ قبل أن يكمل التَّحْمِيدْ. هناك من يُحَوقِلْ. مِن الحمق أن يذهب شخص إلى العمل بعد أكل هضبة من الكسكس، ومسح القصعة بيده، ولحس أصابعه حتى لا تضيع النعمة، وحتى تعُمّ البَركة.
النوم هو أفضل خيار بعد تنقية الأسنان بأعواد الْبَشْنِيخَة، وأحيانًا بعد تدخين السَّبْسِي مع رشفِ شايٍ مركَّزٍ للهضم يُفرغ من بَرَّادٍ جالس فوق الصينية كدجاجة حنونة تحضن دزينة بيض، يُرفع في اليد إلى سابع سماء قبل أن يُشَرْشِرَ في الكأس. سبسي واحد أو سبسيين فقط، دون إفراط أو تفريط. يقولون لبعضهم أن الكِيف ليس كالحشيش، بل هو جيد للصحة وفاتح للشهية، وأكثرهم يؤكدون ذلك برؤوسهم. بعد ساعتين من نوم القيلولة بِلا غطاء للإنصات بإمعان إلى العِظام والمفاصل، حين يأخذ الحلم شكل الوليمة المضبَّبَةِ في الضجيج والقهقهات، يؤذن المؤذن فجأة لصلاة العصر موقظًا المدينة من نوم النهار المشوش بصوته الحاني، ليس مؤذنًا واحدًا فقط، بل جوقة مؤذنين تتداخل أصواتهم في كورال متقن، بعضهم يستعمل ميكرفونًا ومكبرات صوت، وبعضهم يكتفي فقط بوضع يده خلف أذنه كبوق.
تتمطى المدينة كما تتمطى على عتبة الجيران قطة أليفةٌ . تستيقظ البيوت القديمة بتثاقل وتغسل وجهها بماء صنابير تحدث أصوات خَرْخَرَاتِ عزلةٍ عميقة في الروح وفي الشساعة، ماء يقْطُرُ وغَلاَّيَاتٌ تَسْخُنُ على النار للوضوء أو للشاي. يبدأ الدبيب في التناسخ، تُفتح الأبواب وتَصِرُّ النوافذ، نساء تطل من الشرفات بنصف عينٍ وأطفالٌ يكرهون نوم القيلولة أخيرًا يُفرج عنهم، أبواب بيوت بمقابض من نحاس على شكل يَدٍ بخمسة أصابع، وأبواب محلاتِ خياطين ونجارين وخضارين وسماسرة بمزاليج طويلة وأقفال مضاعفة. تزداد الحركة شيئًا فشيئًا وتنمو كَاللّْوَّايَة دون أن يشعر بنموها أحد، ضجيج الباعة يعلو ويتحفز أكثر، أبواق السيارات والدراجات النارية تضغط من أجل إفساح الطريق، العربات تنتهز الفرصة لتمر: بَالاَااااكْ بَالاَااااكْ. الدكاكين والمحلات لابد أن ترش المساحة التي أمامها بالماء من نصف قربة، بائع التمر على عربة ينش الذباب وينادي: التمر ببلاش.. التمر ببلاش..
اللصوص لا أحد يعرف من أين يأتون، المتسولة العجوز تفترش قطعة كرتون سميكة وتجلس فوقها، إن جاءت متسولة أخرى في الفجر واستولت على مكانها ستدعوها عند المخزن، وتربح الدعوة في المحاكم بعد شهور قليلة، البارات تفتح في بداية المساء، النادل يكنس باب البار ويغني: حْطّيتْ الطّْبيلة سِيدِي حْطّيتْ الطّْبيلة خويا حْطّيتْ الطّْبيلة بابا حْطّيتْ الطّْبيلة.. أَوْمَالُولُو.. أَوْمَالُولُوووو!! والبقشيش يحدث قرقعة في جيب وزرته، "دليلة" تدخل بالرجل اليمنى وتلقي السلام على رواد البار، يردون عليها السلام جماعة، أحدهم لا يكتفي بِ: وعليكم السلام، بل يزيد عليها ورحمته وبراكااااته، يمططها متمايلاً. الحياة تأخذ مجراها الطبيعي، أبعد ما يكون عن المواعظ والطهرانية، إن لم تراقب عدَّاد سائق التاكسي فجيبك في خطر، الجزّار قد يدس لك في الميزان عظمة كبيرة، قد تجد صرصارًا في صحن اللوبيا، قد لا تجد حافظة نقودك بعد الخروج من الزحام، قد لا تجد نفسك إن غفوت.. وهكذا.. إغْفلْ تطير عينك.
أيها الناس: يجب أن تكونوا صالحين.. هذا ما يقوله كل جمعة، الإمام الطيب الشِّيظْمِيُّ، إمام مسجد دُكّالة.
بقلم: الكاتب محمد بنميلود
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق