مرجعك الدائم للنجاح والتفوق والتنمية الذاتية، والتحضير للمباريات والكفاءة التربوية والتأهيل المهني والشؤون الإدارية

بحث هذه المدونة الإلكترونية


"وإنك لعلى خلق عظيم" :

تربويات24 :
    التواضع هو خفض الجناح، ولين الجانب، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم:     ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ)


(215) (الشعراء) وقال تعالى: ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾       (آل عمران: من الآية 159)


   و التواضع هو أن تشعر أنك واحد من الناس، وليس فوق الناس، أو أفضل من الناس، فالناس متساوون جميعًا أمام الله كأسنان المشط،

وفي الحديث: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود إلا بالتقوى" (1).


    والتواضع هو معرفة أقدار الناس، وإعطاء كل ذي حق حقه من التقدير والاحترام، وأن لا تضع حاجزًا بينك وبينهم في المعاملة مهما كانت وظيفتك، وفي الحديث:"ليس منا من لم يوقِّر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، ويعرف لعالمنا قدره" (2).


   والتواضع هو قبول الحق والرضا به، والنزول على الرأي الآخر مهما كان مصدره، إن كان حسنًا أو صوابًا، دون غضب أو ضجر، وفي الحديث: "الكبر بطر الحق- أي: رفضه- وغمط الناس؛ أي: احتقارهم"(3).


   والتواضع هو أن ينكر الإنسان ذاته، ولا يرى لها حظًّا أو نصيبًا، فلا يميِّز نفسه عن غيره من الناس، قال الشافعي: "أرفع الناس قدرًا من لا يرى قدره، وأكبر الناس فضلاً من لا يرى فضله".


    والتواضع هو عدم التعالي أو التكبُّر على الناس، فيحترم الجميع، مهما كانوا فقراء أو ضعفاء، أو صغارًا أو غير معروفين، أو أقل منه علمًا ومعرفةً، قال تعالى: ﴿وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) (الإسراء).


   والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع دافعُه الرغبة فيما عند الله وابتغاء مرضاته، وهو يتولَّد من العلم بالله ومعرفته ومحبَّته وتعظيمه، والبحث عن مرضاته، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) (القصص) أما الهوان: فدافعه الرغبة في حظوظ الدنيا، ويأتي من ضعف النفس، وهو لونٌ من الذلِّ والدونية.


    أسباب الكبر:


   هناك من يتكبَّر بعلمه، فلا يرى إلا رأيه، فرأيه صواب لا يحتمل الخطأ، ورأي غيره خطأ لا يحتمل الصواب، ومن ثمَّ فهو لا يقبل النصيحة من أحد، بل يغضب من صاحبها، وفي الحديث: "الدين النصيحة" (4).


   وهناك من يتكبَّر بحسبه ونسبه، فيفتخر بآبائه وأجداده، فيرى الناس جميعًا أقلَّ منه دائمًا، وهو فوقهم.. قال تعالى:


﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) (الحجرات).


  وقال الشاعر:


ليس الفتى من يقول كان أبي **** إنما الفتى من يقول هاأنذا


   وهناك من يتكبَّر بجاهه وسلطانه ومنصبه، فيرى أنه فوق الناس جميعًا، وينظر إليهم من علوٍّ، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، فقال رجل: يا رسول الله إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسن ونعله حسن، فقال صلى الله عليه وسلم: الكبر بطر الحق وغمط الناس" (5).


   وهناك من يتكبر بماله، فيشعر أنه فوق الناس بماله وغناه، ويتباهى بذلك، كما حكى القرآن عن صاحب الجنة في سورة الكهف الذي فضَّل نفسه على صاحبه قال تعالى: ﴿فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا (34)(الكهف).


   والمتكبِّر يشعر أن منزلته أعلى من منزلة غيره، فالناس يكرهونه ويبغضونه وينصرفون عنه، والتكبر يُكسب صاحبه الرذائل؛ لأنه ينسى بدايته ونهايته، قال الإمام علي: "عجبت للمتكبر الفخور، الذي كان بالأمس نطفةً ثم هو غدًا جيفة".


   وقد ذمَّ الله فرعون؛ لأنه كان متكبرًا، فطبع الله على قلبه قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) (غافر) فالله يبغض المتكبرين، ويطردهم من رحمته، قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) (النحل).


   أيها المسلم.. إياك والتكبر، فإن إبليس عصى الله متكبرًا فلعنه وطرده من رحمته؛ لأنه فضَّل نفسه على آدم عليه السلام ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) (ص) فكانت النتيجة: ﴿قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ


(78) (ص).


   والكبرياء من صفات الله تعالى وحده، لا يجوز للعبد المخلوق أن يشارك فيها السيد الخالق، وفي الحديث القدسي: "الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي" (6).


   أيها المسلم.. تزيَّن بالتواضع، فإنه تاجٌ على جبينك، أينما كنت يرتفع قدرك عند الله وعند الناس، قال تعالى:


﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) (الفرقان).


   التواضع من أخلاق خاتم النبيين:


   التواضع خلقٌ عظيمٌ، يدل على طهارة النفس، وصفاء الداخل، وهو سبيل القرب من الله، ويجلب الألفة و المحبة بين الناس؛ لأنه يتماشى

مع الفطرة، والناس يحبون كل شيء يمشي مع فطرهم، وفي الحديث قال صلى الله عليه وسلم: "ما تواضع أحد إلا رفعه الله" (7).

   كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقًا، وأشدَّ الناس تواضعًا، وقد قال الله تعالى في حقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

(القلم)، فكان صلى الله عليه وسلم خافض الجناح، ليِّن الجانب، شهدت له زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها بذلك، وهي أقرب الناس للوقوف على سلوكه وأخلاقه، فقالت: "إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتُكسب المعدوم، وتحمل الكلَّ، وتعين على نوائب -أي: مصائب- الدهر" (8).

   وسئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عما كان يضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته فقالت: "كان يكون في خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة، فكأنه لا يعرفنا ولا نعرفه" (9)، فكان يحلب الشاة، ويخصف نعله، ويرقِّع الثوب، وكان يحمل حاجة أهله، ويكنس بيته، ويقطع اللحم مع أهله.


   خُيِّر النبي صلى الله عليه وسلم بين أن يكون عبدًا رسولاً أو ملكًا رسولاً، فاختار أن يكون عبدًا رسولاً، وقال: "إنما أنا عبد، آكل كما يأكل العبد، وأجلس كما يجلس العبد" (10).


   وكان لا يميز نفسه على من يشاركهم في العمل، فكان يحفر في الخندق حول المدينة، ويحمل التراب على كتفه، مثل باقي الصحابة، عن البراء بن عازب قال كان النبي صلى الله عليه وسلم "ينقل معنا التراب يوم الأحزاب، ولقد رأيته وقد وارى التراب بياض بطنه" (11)، وكان يشاور أصحابه، وينزل على رأيهم إذا كان صوابًا أو كانوا أغلبيةً، فقد شاورهم في غزوة بدر وأحد والخندق وخيبر، وأمره الله بذلك، فقال تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ (آل عمران: من الآية 159)، وكان يأتي ضعفاء المسلمين ويزورهم، ويعود مرضاهم، ويشهد جنازتهم، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يزور الأنصار، ويُسَلِّم على صبيانهم، ويمسح رءوسهم" (12)، وقال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعود المريض، ويشهد الجنازة، ويجيب دعوة العبد، وكان يوم بني قريظة على حمار مخطوم بحبل من ليف" (13)، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس على الأرض، ويأكل على الأرض، ويعقل الشاة، ويجيب دعوة المملوك على خبز الشعير" (14).


   وكان صلى الله عليه وسلم يمنع أصحابه من القيام له، وما ذلك إلا لشدَّة تواضعه، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئًا على عصًا، فقمنا له، فقال: "لا تقوموا كما يقوم الأعاجم، يعظِّم بعضهم بعضًا" (15)، وكان يكره المدح، وينهى عن إطرائه ويقول: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد الله ورسوله، فقولوا عبد الله ورسوله"(16).


   وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة ويقول: "لو دُعيت إلى كراع لأجبت، ولو أُهدي إليَّ ذراع لقبلت" (17)، وكان يأكل مع خادمه، ويقرِّب الطعام لضيفه، ويباسط زوَّاره، ويسأل عن أخبارهم، ويتناوب ركوب الراحلة مع رفيقه، ويلبس الصوف، ويأكل الشعير، وربما مشى حافيًا، وينام في المسجد، ويعاون الضعيف، ويتفقد السرية، ويكون في آخرهم فيساعد من يحتاج، ويرافق الوحيد منهم.


   وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وما أخذ أحد بيده فيرسل يده حتى يرسلها الآخر، وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُرَ قطُّ مادًّا رجليه بين أصحابه، يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ولا يَقطع على أحد الحديث.


   وكان أكثر الناس تبسُّمًا، وأطيبهم نفسًا، وكان واسع الصدر عظيم العفو والمسامحة، دخل مكة فاتحًا منتصرًا بعد أن آذوه وطردوه،

فطأطأ رقبته من فوق بغلته، حتى كادت أن تلامس صدره من شدَّه تواضعه، ولِمَ لا وقد وصفه الله بقوله: ﴿بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ
(128) (التوبة)، وقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا (21) (الأحزاب).

   نسأل الله أن يجعلنا من المتواضعين في كل أحوالنا.


-------------------

(1) الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3/269، رجاله رجال الصحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

(2) الحديث ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 1/90 عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه.

(3) الحديث أخرجه الإمام مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(4) الحديث أخرجه الإمام مسلم (55) عن تميم الداري رضي الله عنه.

(5) الحديث أخرجه الإمام مسلم (91) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

(6) الحديث أخرجه الإمام أبو داود (4090) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(7) الحديث أخرجه الإمام مسلم (2588) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

(8) الحديث أخرجه الإمام البخاري (6982) عن عائشة رضي الله عنها.

(9) الحديث أخرجه الإمام البخاري (676) عن عائشة رضي الله عنها.

(10) الحديث ذكره الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء 2/194 حسن غريب، عن عائشة رضي الله عنها.

(11) الحديث أخرجه الإمام البخاري (7236) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

(12) الحديث ذكره البغوي في شرح السنة 6/335، وقال: حسن صحيح، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(13) الحديث أخرجه الإمام الترمذي (1017) عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

(14) الحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9/23، وإسناده حسن، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

(15) الحديث ذكره ابن حجر في مشكاة المصابيح 4/336 حديث حسن، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه.

(16) الحديث أخرجه الإمام البخاري (3445) عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(17) الحديث أخرجه الإمام البخاري (5178) عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ليست هناك تعليقات: